قصة المجهر الأول
الذخائر 1404
قصة المجهر الأول
كل الأفكار العظيمة تبدأ صغيرة. والجبال الراسيات كومات لانهاية لها من الحصى. والأنهر العظيمة تدفق تريلوينات القطرات، وكذلك كانت بداية فكرة المجهر في هولندا.
مع هذا فكل اختراع يحتاج إلى ثلاث طبقات؛ من المناخ العقلي، والجو العلمي، ثم تأتي الأشياء كما تحتشد السماء بصيب فيه ظلمات وبرق ورعد.
بدأت الفكرة من اكتشاف عرضي، فلو وضعنا عدستين مصقولتين فوق بعض، تغير المنظر؛ فأصبح المرئي كبيرا، حسب درجة الصقل. كانت هولندا في القرن السابع عشر قد بدأت في تطوير صقل العدسات لحسيري البصر، وكانت النظارات ليست بأناقة اليوم، تحمل باليد حملا مدورة تشبه نظارات غاندي وعمر المختار، ولم يكن ثمة ألف شكل وشكل فضلا عن نظام الليزك الذي أنهى عصر النظارة بالكلية.
كان (أنتون فان لوي فينهوك Anton van Leeuwenhoek) هو الذي طرق باب هذا العالم، وشق الطريق لاكتشافه، ومعه تم شق الطريق إلى عالم (النانو) والعضويات المجهرية، وكشف كون كامل ساحر، من قبائل وشعوب من العالم الأصغر، مما علم ولم يعلم، فقد رأى الجراثيم، ولكن مجهره المتواضع، لم يكن بقدرته أن يرى فيروسات البوليو (شلل الأطفال) والإيدز. وبين قفزة (لوي فنهوك) وأين وصل العلم، مثل قفزة الأخوة (رايت) في طيارة لمسافة 200 متر، وإرسال الباثفايندر إلى سطح المريخ في رحلة ستة أشهر. وإذا كان ميكروسكوب (ليفنهوك) الأولي كبّر 200 مرة، بوضعه على العين مباشرة، فهو أول الطريق للمجهر الالكتروني، الذي يكبر 120 ألف مرة، بل والتحرك باتجاه المجهر البروتوني بقوة تكبير 800 ألف مرة، و السيكلوترون الذي يطمح أن يرى الذرة رأي العين.
ومن وصل إلى بناء أول مجهر يكبر الأشياء كان صاحبنا أنتون فان لوي فينهوك Anton van Leeuwenhoek). ولد هذا الرجل عام 1632 م في (دلفت Delft) من هولندا، ومات عام 1723 م ( عاش 91عاما حافلة بالعلم) وبقي حتى آخر ساعة من حياته، لا يكف عن اكتشاف هذا العالم الأصغر. وتعود شهرة (لويفينهوك) ليس لاختراع الميكروسكوب بل استخدامه، ولقد اشتغل بيديه في تطوير 200 نوعا، ما زال عشرة منها صالحة للاستعمال، على شكل متحفي، ولم يكن يزيد حجم الواحد عن قطعة نقد معدنية، واستطاع أن يصل في قوة التكبير إلى 200 مرة، وراسل الجمعية الملكية البريطانية، في أكثر من 200 ورقة بحث، يصف لهم الكائنات الجديدة. ولم يكن لشغفه بالمعرفة حد مع أنه كان (بزازا) أي تاجر أقمشة، إلا أنه أبحر في الكون الأصغر يتعرف فيه كل يوم على صديق جديد فكوّن لنفسه مجموعة من أصدقاء الطبيعة بقيت متحفا حتى يومنا هذا. برهانا وعرفانا على الشغف العلمي إلى أين يأخذ صاحبه.
كانت أول تطبيقاته على الميكروسكوب من مهنته، فدرس خيوط القماش، ثم نزل لا يعبأ، فجمع ماء المطر، ونظر ماذا يحوي، فهاله الأمر، أن هذا الماء ليس فارغا، بل وسط يعج فيه الكثير من الضيوف النشيطين، ويعرف أطباء المخبر أنها كائنات وحيدة، من نوع الجراثيم ذات الخلية الواحدة، ثم عمد إلى فمه فغسله جيدا، ثم أخذ المخاط واللعاب، ووضع عينه عليه؛ فرأى أشكال عجيبة، من الكائنات النشطة، التي تسبح، وكلها وصفها وأرسلها للجمعية الملكية في بريطانيا..
بل بلغ به الغرام؛ أن قام بدراسة المني عنده على استحياء، فكان أول من رأى الحيوانات المنوية. ورأى الكريات الحمراء في الدم، مثل أرغفة الخبز، وقال أن مائة واحدة منها لو صفت، ما بلغت حجم نقطة مما نكتب؟ ولم يكن ليقيس سوى بحبة رمل أو عرض شعرة، وكان على مرمى قدم من الحقيقة، ولم يكن يتصور حلقة دوران الدم في الجسم، حتى قام فيزيائي بريطاني هو (ويليام هارفي)، وصفه على نحو نظري، مثل الماكينة العملاقة، يدور فيها الدم، مركزها القلب، ولكن لم يهتد إلى كيفية انقلاب دم الشرايين، إلى الطريق الوريدي، حتى فك السحر صديقنا لوي فينهوك في زعانف السمك، والإيطالي (مارسيو مالبيكي) في نهايات الأطراف، وأن الدم يتعانق ويتداخل في النهايات، حيث توجد شبكات هائلة من التعانق والتفاغر والتزاوج، بين نهايات الشرايين والأوردة، وبذلك ينقلب الدم الأحمر إلى أزرق، ليعود إلى القلب، كما بدأ أول خلق يعيده..
بقيت مشكلة النور واستقطابه، حيث لم تكن الرؤية واضحة في المجهر، وتطلب هذا وقتا طويلا، قبل أن يقوم (نيوتن) البريطاني بكشفه العجيب، عن ضوء هو مزيج من سبعة ألوان، وهو أمر لا يمكن أن تصحح به العدسات، وهو أمر صححه الرياضي السويدي (كلينجن ستيرنا (Klingenstjerna واستفاد منه لاحقا (دولاند) في حدة إبصار الميكروسكوب، أما (روبرت هوك) فكان أول من درس الفلين الهش، ليقول بشيء عجيب عن (غرف خلوية) مثل علب الكبريت الصغيرة. وكانت هذه الكلمة الأولى عن وحدة الحياة الأولى (الخلية)، ليأتي الفرنسي (فيلكس دو جاردين) بعد هوك بـ 170 سنة، وهي فترة طويلة، ويقول يا قوم: إن الخلية أيضا فيها سائل عجيب أقرب لمرقة اللحم؟
وفي عام 1838م كشف الألماني (ماتياس شلايدن) عن وحدة الطبيعة، وأن ما هو موجود من بناء خلوي في الفلين، موجود في كل النباتات، ليعممها أكثر (تيودور شفان) فيقول: أن الكائنات الحية مكونة من تراص جبار من الخلايا، وأن الخلية هي أصغر المكونات الحياتية، كما كانت الذرة وحدة البناء المادي الأولى..
ونحن نعرف اليوم أن جسمنا مكون من 70 مليون مليون خلية، وأن دماغنا لوحده يتكون من مائة مليار بطارية تدعمها 300 مليار خلية دبقية ، في شبكة خرافية من الاتصالات، كل خلية لها عشرة ألاف ذراع للاتصال بأخواتها بما يفوق الجوجول.
وكل هذا الفتح المبين، لم يكن ليتم لولا الخطوة الأولى، التي بدأها الهولندي لوي فينهوك، تاجر الأقمشة (البزاز) الذي كان من أعظم العلماء بدون شهادة واحدة..